صناعة الأمل والعمل
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى:
وصية الله - سبحانه وتعالى - لكم تقواه في كل آن وحين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران/102].
معاشر المؤمنين لا أحسب أن أحداً يستطيع أن يتجاوز ما يمر بأمتنا من الأحداث دون أن يقف عندها ويتحدث حولها ويطيل التدبر فيها ولا شك أننا جميعاً نسمع ونرى كل يوم ما قد يفت في عضدنا ويوهن من قوتنا ويضعف من عزيمتنا، وربما يجعلنا في حيرة من أمرنا عندما نرى كل أمتنا العربية بمالها من عدد وعدة وسياسة واقتصاد وغير ذلك تجتمع لتعطي العدو المجرم القاتل فرصة لمزيد من استمرار إجرامه وعبثه بمقدساتنا وعرضنا وأهلنا، ومن عجب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أمته بأنه لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ولست أدري كيف تحسب هاتان المرتان هل تضرب في أعداد العشرات أم المئات أم الآلاف؟ رأينا في الجمعة الماضية ما حل بالأقصى وبأهل البيت المقدس في صلاة الجمعة وما هذه الجمعة التي نحن فيها إلا أسوأ من سابقتها من حيث عدوان المعتدين المجرمين المحتلين وليس عندنا إلا أن نقول إن هذا سيتسبب أو قد يصلُ إلى أن توقف المفاوضات ولست هنا أتحدث حديثاً سياسياً وقد قلت مراراً وتكراراً إن هذا المنبر هو روح من كتاب الله - عز وجل - هو نور من هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو منهج مستقى من العبر في تاريخ أمتنا وقطعاً لا أقول شيئاً من ذلك لترويج اليأس أو لتصويغ الواقع كما تفعل كثير من وسائل الإعلام، لكنني فكرت هل أستطيع ألا أتحدث في هذا ثم فكرت ثانية في الأثر الذي نريد أن يحدث إذا تحدثنا في مثل هذا الأمر ماذا نريد أن نقول؟ إنني هنا وفي هذا المقام أريد أن أقيم وجهة الحديث الذي قد نألفه كثيراً بتكرار الأحداث والتفاعل حزناً وألماً أو صراخاً وعويلاً أو نقداً وذماً أو بصور كثيرة مختلفة، لكنني اليوم مع ما سبق من أحاديثنا أجعل الأمر في سياق مهم وهو سياق القدرة على صناعة الأمل والعمل في الأمة. {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } [الذاريات/50].
وكلكم يعلم أن الفرار يكون عند الخطر المحدق عند العدو المداهم عند اللحظة التي لا يكون فيها مجال كبير إلا لهذا الفرار طلباً للنجاة وأخذاً لسبيل القدرة على الحماية والوقاية من آثار العدوان فالذي يفر يجري بأقصى سرعة ونحو وجهة واحدة وإلى رؤية شاخصة لا يلتفت يميناً ولا شمالاً لا يبحث في شرق ولا غرب لا ينظر إلى الوراء لأن طريقه للنجاة واضح ومقصده للالتجاء ظاهر، ومكان أمانه ومأمنه في كنف الله - عز وجل - وفي ظلال شرعه، وفي الاستمساك بدينه، وفي الاعتصام بكتابه، وفي الاهتداء بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمر لا يتغير ولا يتبدل مطلقاً في كل آن و حين، في كل أرض وصقع من هذا العالم، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ } نفر بوجهة واحدة ورؤية واضحة وسرعة كافية بكل شيء في جوارحنا، أبصارنا تنظر، أقدامنا تركض، أعيننا تبصر، وقلوبنا تخفق ونحن نتوجه إلى موطن الأمل والعمل والأمان والحماية والالتجاء.
وهكذا نجدها صورة مكررة معادة للعبرة والعظة في كتاب الله - عز وجل - يذكرها سائر أنبياء الله - عز وجل - في كل ظروف المحنة العصيبة والظلمة الشديدة والطرق المغلقة التي توصد في أوجهه فإذا بموسى - عليه السلام - بعد أن خرج مطارداً وكان فقيراً يجلس ويرفع يديه ويخفق بقلبه، ويلهج بلسانه، {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص/24] فتفتح الأبواب، وتتيسر الأمور، ويدخل في الزواج، ويمر بالإجارة، ويدخل ميدان العمل، ويكلل بالنبوة، ويخص بأن يكون كليم الله - عز وجل - .
وأيوب - عليه الصلاة والسلام - بعد أن أقعده المرض وانقطعت أسباب الشفاء من البشر {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [الأنبياء/83] فجاء الجواب وجاءت النتيجة {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ } [الأنبياء/84] وجاء الفرج المتتابع بعد ذلك.
وقبل هؤلاء سيد الأنبياء وأوله آدم - عليه السلام - {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف/23] {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة/25] لما تخلا بنو إسرائيل عن موسى وقالوا {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة/24] فلم يقعد مع القاعدين ولكنه استعان برب العالمين.
وهكذا نجد الأمر في كل آيات القرآن وفي أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي.
ومن بعد الطائف ساق الله الجن ليؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأنزل ملك الجبال ليكون تحت أمره، إن شاء أن يطبق على أهل مكة الأخشبين لفعل بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن اليأس لم يخالط قلبه العظيم، لكن الأمل والثقة في الله والجهاد والدعوة في سبيل الله جعلته يقول مقالته العظيمة: لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله ويؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقد كان ودخل الناس في دين الله أفواجا ليس مع الإيمان يأس، وليس مع اليقين عجز. فإن حصل اليأس والعجز فثمة خلل في الإيمان، وضعف في اليقين بلا أدنى شك لابد أن نرفع الصوت عالياً لا لليأس، نعم للأمل، لا للكسل، نعم للعمل، لا للإحباط، نعم للجد والنشاط، لا للذلة، نعم للعزة، لا للخنوع والاستعباد، نعم للمقاومة والجهاد.
نحن أمة الإسلام نحن أمة القرآن، نحن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - نحن أمة القرآن. {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران/139] نحن الأعلون وإن كنا في أحط منازل القدرة المادية، نحن الأعلون وإن كنا في وقت من الأوقات في دائرة الهزيمة العسكرية، إن كنا محتفظين بالإيمان نحن أمة القرآن توقن بقول الحق {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة/32، 33] هكذا يقيننا بالله - عز وجل - نحن أمة القرآن توقن بالوعد الرباني، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم/47] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [غافر/51] {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ } [إبراهيم/27] كل ذلك يقين لا يتزعزع، بل نعيش مع القرآن في آياته، ونبقى مع السيرة في أحداثها {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة/214] ومرَّ بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - من الأحداث ما هو صورة حية نابضة بتطبيق هذه الآية يوم الأحزاب يوم اجتمع شدة البرد والجوع والخوف حتى ربط المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على بطنه الشريف حجرين من شدة الجوع وكان الصحابة لا يستطيع أحدهم أن يذهب فيقضي حاجته وصورة الآيات {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [الأحزاب/10، 11] لكن الذين آمنوا قالوا {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [الأحزاب/22] {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } [آل عمران/173-174] ألسنا نعرف هذا في كتاب ربنا؟ ألسنا نوقن بحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؟ (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) ألسنا نوقن بما صح عن حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عند أحمد في مسنده من رواية أبي سعيد الخدري؟ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى ما يكون بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وأهله وذلا يذل به الله أعداء الإسلام) كما قال - صلى الله عليه وسلم - .
إذاً كل هذه الأحداث لا يجب أن تنال من يقيننا، ولا يجوز أن تضعف من إيماننا، بل هي على عكس ذلك هي تصديق واقعي لما أخبرنا به الله - عز وجل - ولما أخبرنا به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما حذرنا منه (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها قلنا أمن قلة يومئذ نحن يا رسول الله؟ قال لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت) الذي يفر إلى الله لا ينظر يمينا ولا يساراً لا تفتنه الدنيا بمغرياتها ولا القوى الكبرى بما لديها من أسباب القوة المادية كما نرى اليوم وقد خطفت أبصار كثيرين يمنة ويسرة فلم يعودوا يرون الطريق المستقيم، لم يعودوا يرون النهج القويم، لم يعودوا يرون خطوات المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لم يعودوا يسترشدون بآيات القرآن الكريم التي تخرجهم من الظلمات إلى النور.
وما عسى اليأس أن يفعل إن اليائس قاعد عن العمل، عاجز عن الحركة، يسهم إسهاماً كبيراً وقوياً في نصر عدوه عليه، وعلى بني أمته ودينه لأنه يسوق لما يقوله العدو ماذا يقول العدو اليوم؟ وماذا تقول وللأسف كثير من وسائل إعلامنا وبيانات وقرارات ساستنا إنه يقول لا حل لديكم، لا قوة عندكم، لا مخرج لكم، لا أمل في الأفق مطلقاً، سوف تظلون كذلك أذلاء ضعفاء، مستعبدين للقهر والجبروت، فإن كنا مع اليائسين فنقول قولاً حقيقياً صدق يا عدونا لقد قلب بالحق يا محتلنا لأن كل الذين يروجون لذلك يعطون شهادة تصديق لأعدائنا فيما يبثونه علينا من هذه الأراجيف ولكن مرة أخرى وثانيةً وثالثة بلسان اليقين الراسخ، بلسان الإيمان القوي، بلسان الثقة المطلقة برب الأرباب - سبحانه وتعالى - كما خوطب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } [الروم/1-4] قيلت لما انتصر فريق من الكافرين على آخر وكان ذلك مفرحاً لقريش أمام المسلمين فجاءت البشارة ولم تتحقق إلا بعد نحو 9 سنوات لكن ما شك أحد لحظة واحدة ولا بأدنى درجة في تصديق وعد الله - سبحانه وتعالى - نحن أمة حطين التي استعادت فلسطين دون أن يمر على احتلالها قرن من الزمان نحن أمة عين جالوت التي انتصرت في معركة واإسلاماه على التتار الذين أبادوا الأخضر واليابس وقتلوا مئات الآلاف من المسلمين حتى كان مجرد ذكر إسمهم تنخلع له القلوب وحتى كان بعض المسلمين قد أيس أن يكون ثمة قدرة على مواجهة، فضلاً عن انتصار ساحق عظيم جاء بعد أقل من عامين من سقوط بغداد في الحادي والعشرين من عام 656 من الهجرة في شهر الله المحرم وفي الخامس والعشرين من رمضان عام ثمانية وخمسين وستمائة للهجرة جاء نصر عين جالوت أمة فيها أسباب القوة والعزة والنهضة، كتاب محفوظ، وهدي عظيم لرسول كريم - صلى الله عليه وسلم -، وسنة خلفاء راشدين مهدين من بعد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وطائفة على الحق منصورة في كل زمان ومكان، ومجددون يجددون لهذه الأمة أمر دينها نحن أمة غنية ليست في تاريخنا فحسب فنحن اليوم في هذا العصر أمة عبدالقادر الجزائري الذي قاد التحرير ضد فرسنا من الجزائر، أمة عبدالكريم الخطابي الذي أخرج بقيادته الفرنسيين من المغرب، أمة عبدالقادر الحسيني الذي جاهد الإنجليز واليهود في فلسطين، أمة عمر المختار البطل الذي أخرج الإيطاليين من ليبيا، نحن أمة قوة وعزة، نحن أمة إيمان ويقين، لا يمكن أن تهزمنا هذه الأحداث ولا هذه الإرجافات، لكننا لا نبقى مع الأمل الحالم، بل مع الأمل المدعوم بالعمل كما كانت أمتنا في كل وقت وحين، نحن أمة أطفال الحجارة وشباب الانتفاضة ورجال المقاومة، وأبطال الجهاد في فلسطين الذين علموا الدنيا كلها أن الإيمان واليقين لا يهزمه شيء مهما كانت القوى المدججة بالسلاح إن معركتنا الأولى مع اليأس ومعركتنا الأولى مع هذا الوهن الذي يشيعه في أمتنا أعداؤنا والمرجفون من أبناء أمتنا الناطقين بألسنتنا المشككين اليوم في أحكام شريعتنا المهاجمين اليوم لما يثب من سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - المستهزئين اليوم بكثير من حكم تشريعات أمتنا إنهم لا يقلون فتكاً في أمتنا مما قد يقع من إرجاف عدونا، ولذلك حسبنا مع كل هذه الأحداث أن نحتفظ بإيماننا قوياً، وبيقيننا راسخاً، وبأملنا في الله عظيماً ثابتاً دائماً لا ينقطع، وبتوكلنا عليه بصدق، وبجهادنا في كل ميدان. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت/69].
ووعد الله - عز وجل - صادق لا يتخلف إن صدقنا الله صدقنا الله - سبحانه وتعالى - وصدقت وعوده لنا بحسب شروطها وبحسب مقتضياتها {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم/47] {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا } [البقرة/257] {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا } [الحج/38].
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يجعل الإيمان في قلوبنا قويا، وأن يجعل اليقين في نفوسنا راسخا، وأن يجعل أملنا في الله عظيما، وأن يجعل توكلنا على الله صادقا، وأن يجعل عملنا لمرضاته خالصا.
الخطبة الثانية:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
وإن طريقنا الوحيد أن نفر إلى الله - سبحانه وتعالى - ونلتجأ إليه لا بمجرد الدعاء وهو عظيم وجليل وذو أثر كبير وليس بمجرد الإنابة والتضرع والبكاء وهي جليلة وعظيمة ومؤثرة وإنما بالعمل في كل ميدان وليس بالضرورة أن يكون الميدان الأبعد لأننا إن لم نعمل في الميدان الأقرب، وإن لم نستطع أن نخطو خطوات في الطريق المجاور لنا، فلن نستطيع أن نسير في طرق بعيدة وأماكن شاسعة.
إنني أدعو إلى المقاومة، لا تذهبوا إلى هناك إلى صورة المقاومة الجهادية أول مقاومة أن نقاوم هذا الغثاء الذي يفت في العضد، ويروج لليأس، فلا يأس مع الإيمان، ولا عجز مع اليقين، وأن نقاوم أيضاً كل هذا الغثاء الفاسد المفسد المنحل، الذي يدعو أمتنا وشبابنا إلى الغناء والرقص والفسق والفجور. فإننا إن استسلمنا له فذلك لا يدل على أننا فررنا إلى الله، فإن الفرار من المعاصي إلى الطاعات، ومن الرذائل إلى الفضائل، ومن التأخر في ميدان الإيمان واليقين إلى التقدم في ميدانه. ولابد أيضاً أن نقاوم الجهالة التي بدأت تنتشر في أمتنا جهالة في حقائق قرآننا، جهالة بمعالم سنة نبينا، جهالة بصفحات تاريخنا، جهالة بحقائق ديننا ومحاسنه ومقاصده لأنه سرى اليوم في الأمة نوع من التبدل والتغير. فإذا الجهاد عند بعضهم إرهاباً حتى وإن كان في ميدانه الصحيح وبشرطه الشرعي الصحيح، وإذا بالستر والعفة والحياء تحجراً أو ضيقاً أو كبداً، وإذا بالنزاهة والطهارة والنقاء دروشة أو غباءً، وإذا بنا نرى صوراً مختلفة فلنقاوم ذلك ولنقاوم كل أمر يغير من مفاهيمنا المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بما هو كلي شامل ثابت في ديننا بآيات من ربنا، وبأحاديث من رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، أن نقاوم الكسل، والخمول، واللامبالاة الموجودة في واقعنا، لماذا نرى أممنا ودولنا متأخرة ومتخلفة في إنجاز العلم في الدوام الرسمي في أداء العمل؟ بل نرى ذلك وللأسف حتى في أحوالنا الدينية، هذه جمعتكم كثير من إخواننا يأتون والإمام يصلي أو وهو يدعو في خطبة الجمعة أين الهمة والنشاط لدين الله - عز وجل -؟ وللإقبال على الطاعات لابد أيضاً أن نقاوم بعد ذلك شح أنفسنا، بأن نجود بوقتنا، وجهدنا، وفكرنا، ومالنا لنصرة أمتنا ولنصرة ديننا في أي ميدان من الميادين. سل نفسك خلال أسبوع مضى كم أعطيت من وقتك لا لأمر يخصك بل لأمر يخص أمتك ودينك ومجتمعك ووطنك كم من مال بذلت في هذا الشأن، أو ذاك كم من فكرة حاولت أن تبدعها أو أن تفكر فيها لتسهم في أمر يحيط بك في مجتمعك وفي وطنك وفي جيرتك. نحن عطلنا كثيراً من قوانا العقلية، والفكرية، والعملية، حتى نحدث تغييراً في واقع أمتنا وفي أحوال مجتمعنا. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد/11] استعيدوا في قلوبكم قوة الإيمان واليقين واستعيدوا الثقة في الله والأمل في نصره فستتغير حينئذ أوضاعنا جميعاً وستصبح مقاماتنا وأحاديثنا مع أبنائنا وأسرنا ليست في الملابس والأحذية والأكسية والإسكريم والأطعمة، وإنما في أمور أخرى غير ذلك. مع هذه كلها سيكون حديثنا لطلابنا في مدارسنا وجامعاتنا أن يكونوا رجالاً أبطالاً ويكونوا أصحاب همة وعزيمة سيتغير كل ذلك عندما نقاوم أسباب الضعف ولذلك ينبغي أن نعلن أنه لا لليأس ونعم للأمل والعمل معاً.
فنسأل الله - عز وجل - أن يردنا إلى دينه رداً جميلا.